بقلم: د. علي جمعة
مفتي الديار المصرية
يتميز العقل العلمي عند المسلمين بأنه حريص على تحديد مصادر المعرفة، والتفرقة الدقيقة بين مجالاتها المختلفة، هناك المجال الحسي كالكيمياء والطبيعة، يختلف عن المجال العقلي كالرياضيات وهو بدوره يختلف عن المجال النقلي كشأن اللغة، والشريعة، وقد تتداخل هذه المجالات كما هو الشأن في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولكل مجال منهج بحثه، وترتيب أدلته. ويحرص العقل العلمي أيضا على تحديد طرق البحث وشروط الباحث، وترتيب الأدلة، والرؤية الكلية، وعدم إهمال الجزئيات، وتأصيل المسائل، وتفصيلها، ووضع المصطلحات بإزاء المفاهيم، والاعتماد على الحقائق دون الانطباعات والرغبات والأوهام.
بخلاف ذلك يكون العقل الخرافي الذي ينكر أول ما ينكر حجية المصادر، وهذا ناتج في غالب الأحيان من الجهل، وفي بعض الأحيان من الهوى، ومعرفة أن الالتزام بالمصادر سوف يكون ثقيلا على نفس المنكر، كما أن العقل الخرافي ينكر ثانيا طرق البحث، ومن هنا يختلط عنده العلم بالممارسة، يعترف في ظاهر القول بالعلم ويدعو إليه، ولكنه بمفهوم آخر يقصره على المجال الحسي،ويجعل ما فوق الحس شيئا مختلفا وليس علما، مرة يسميه بالإيمان ومرة يسميه بالعقل الخرافي، وهذا نتيجة خطأ في تعريف العلم، وفي إدراك مجالاته وتطرق بحثه.
ويتميز العقل الخرافي ثالثا بإنكار التخصص، وإذا اعترف به بلسانه لا يعترف في عقيدته، وحاله. ورابعا يهرب العقل الخرافي من الأدلة، ومن البحث عنها وفيها، لأن ذلك يحتاج إلي علم هو يفتقده، وإلى جهد ووقت ليس متاحا له، ويعتمد على الشبهات والله سبحانه وتعالى يقول(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)( الإسراء:36).
كما أن العقل الخرافي خامسا هو عقل مجتزأ، يفصل المسائل عن أصولها، ويفصلها أيضا عن علاقتها بغيرها، ويفصلها عن مآلها, ويفصلها عن دليلها، وهذا العقل الذي اجتزأ المسألة كثيرا ما نواجهه بمثال ذلك الذي قرأ(فويل للمصلين) ولم يتم وقرأ (لا تقربوا الصلاة) ولم يكمل، وهو موجود في كل زمان ومكان..
ومن خصائص العقل الخرافي سادسا التداعي, بتصور لزوم ما لا يلزم، وهو ما يغبش عليه فهم المسائل، ودراستها، وسابعا التعميم وهو ما يسمى بالشغب، وفيه حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: من قال هلك الناس فهو أهلكهم والصفة الثامنة للعقلية الخرافية: الخلط بين المصطلحات، التلبيس في المفاهيم إنه يشعر بلذة عظيمة عندما يمارس ذلك، وتغبش عليه هذه الطريقة الحقائق البسيطة الواضحة (لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) ( آل عمران:71)
وهو تاسعا يعتمد على الأوهام، وعلى الانطباعات، وعلى الرغبات، ويعتمد على ما درج عليه ونشأ فيه، ولذلك يرى نفسه أنه هو الحق المطلق، قال تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون)( الجاثية:23) ويقول سبحانه وتعالي (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).
إن أسباب الاشتغال بالخرافة خاصة عند بعض الكاتبين، وليس في عموم الناس هو تبسيط المركب، وكذلك الاستسهال، والاستهانة، وشيء كثير من الكبر، والوهم، وهذه الصفات صفات نقص لا تؤدي أبدا لا إلى الخير، ولا إلى النجاح، ولو أنها شاعت في أوساط الباحثين، والكاتبين لمثلت ظاهرة جد خطيرة يجب علينا جميعا أن نقاومها وأن نعيد الأمر إلى نصابه.
فإن عقلية الخرافة سوف تؤدي حتما وبلا تردد إلي السطحية التي ينهار معها البناء الفكري، والفكر المستقيم، حيث إن البناء الفكري والفكر المستقيم لا يقوم إلا على أسس عميقة قوية، ولا يمكن أن يقوم على وجه السطح بهذه السطحية المفرطة، ان العقلية الخرافية سوف تؤدي إلى التناقض، فمرة نوافق، ومرة نرفض بدعوى أننا كنا جاهلين أول الأمر، هذا التناقض لا علاقة له بتغير المواقع مع تغير الزمان أو المكان أو الأشخاص أو الأحوال أو كم المعلومات أو ظهور أهداف جديدة، والعقلية الخرافية تؤدي أيضا إلى شيء من الإعجاب بالرأي والتشويش علي الحق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة ( رواه ابن ماجه في سننه).
وتؤدي العقلية الخرافية أيضا إلي الجهل, وإلي العجز وعدم القدرة علي تغيير الواقع, وهي عقلية دائمة السخرية, والتلبيس والكذب, والعناد, والجدل, وكل صفات نهي الله عنها فقال (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لاتعلمون)(آل عمران:66) وقال ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون* وإذا مروا بهم يتغامزون* وإذا انقلبوا إلي أهلهم انقلبوا فكهين* وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون* وما أرسلوا عليهم حافظين* فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون).
وقال سبحانه (ويقولون علي الله الكذب وهم يعلمون)(آل عمران:75). وقال (والله يشهد إنهم لكاذبون)(التوبة:107) وقال (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)( الكهف:54).
وقال في شأن هذه العقلية الخرافية (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)(فصلت:26).
وقال على لسان تلك العقلية (قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون)(الأعراف:76)
حقا إن العقلية الخرافية مقززة ومن هنا يتولد الإرهاب الفكري، وعدم قبول الآخر، وعدم الاستماع بوعي لرأي يقال، فاللهم أجرنا في مصيبتنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وليس لنا إلا أن ندعوا جميعا لهذه العقلية.
الأهرام 25 يونيو 2007